10:31 م calendar الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق 19 جمادى الأولى 1446 بتوقيت عدن
الرئيسية عاجل القائمة البحث

​بقوة الصور والرموز، تغيرت مشاعر وأحوال بدت مستقرة وراسخة منذ تأسيس إسرائيل قبل ستة وسبعين عامًا، هذا التحول الجذري لم يعد يسمح بتسويغ صورة الدولة الحديثة كواحة للديمقراطية في محيط عربي متخلف ومستبد، ولا صورة الدولة الصغيرة المسالمة التي يتهددها العرب بداعي “العداء للسامية”، لم يعد بالإمكان التجهيل بالمعاناة الفلسطينية الطويلة، تهجيرًا قسريًا وفصلًا عنصريًا، أو إنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه.

ترسخت صورة إسرائيل السابقة بعاملين رئيسيين: الدور الجوهري لإسرائيل في حسابات المصالح والإستراتيجيات الغربية بالشرق الأوسط، والتجييش الدعائي لنموذج إسرائيل التي نهضت من “الهولوكوست” إلى الدولة، وقد تكفلت وسائل الإعلام وهوليوود بتكريس هذه الصورة، ولكن الآن، تبددت الدعايات وبقيت الحقائق، بقوة الصور والرموز، أعادت القضية الفلسطينية تعريف نفسها كقضية إنسانية تستحق الدعم والإسناد وقضية تحرر وطني عادلة ومحقة لشعب رازح تحت الاحتلال يطلب حقه في الحرية. في كل صورة مأساة إنسانية كاملة، والصور تصل برسائلها إلى الضمائر الحرة في العالم كله.

من عمق المأساة، تبدّت موجات الغضب في الشوارع والجامعات الغربية، داعية لوقف حرب الإبادة ومعاقبة إسرائيل على جرائمها بحق الإنسانية. كانت تلك هزيمة إستراتيجية لإسرائيل في صورتها وأوزانها. بات العلم الفلسطيني رمزًا سياسيًا يرفع في كل مكان، واكتسبت الكوفية رمزيتها من عمق التضامن مع شعب يتمسك بأرضه تحت القصف الذي لا يتوقف. بقدر المأساة المروعة التي نالت من أهالي غزة تشريدًا وقتلًا وتجويعًا، أخذت ردات الفعل مداها في العالم الغربي وداخل الولايات المتحدة نفسها، حتى أصبحت قضية دولية لأول مرة في تاريخ انتخاباتها الرئاسية موضوعًا للاستقطاب قد يحسم نتائجها.

الضربات الموجعة توالت حتى وجدت إسرائيل نفسها في وضع الدولة “المنبوذة” و“المارقة”، التي تتهددها الملاحقات القضائية أمام محكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، رغم أن الجنائية الدولية وجهت اتهامات مماثلة لثلاثة من قيادات حماس، إلا أن الضرر الإسرائيلي كان أفدح بما لا يقاس.

كان مثيرًا للالتفات توحد الصف السياسي الإسرائيلي المنقسم على نفسه أمام خطر الملاحقة من الجنائية الدولية، لكنه كان شكليًا لا حقيقيًا، فالانشقاقات الداخلية وصلت إلى التشاتم في وقت حرب. كما كانت مثيرة للاهتمام إدانة الولايات المتحدة لقرار المدعي العام للجنائية الدولية كريم خان باعتباره “مشينًا يساوي بين إسرائيل وجماعة إرهابية”، وفقًا لتصريحات جو بايدن. في الوقت نفسه، أعلنت ثلاث دول أوروبية، النرويج، وأيرلندا، وإسبانيا، عزمها الاعتراف المتزامن بالدولة الفلسطينية في 28 مايو الحالي. لم يكن ذلك الاعتراف المتزامن جديدًا، لكنه مهم لتوقيته ورسائله، حيث يعمق الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي ويدعو إلى انضمام دول أخرى إليه، ويمثل تحديًا للولايات المتحدة، التي استخدمت حق النقض لإجهاض استصدار قرار من مجلس الأمن يعترف بالدولة الفلسطينية.

كانت تلك هزيمة إستراتيجية أخرى لإسرائيل من تبعات حرب الإبادة، التي تشنها ويرجع الفضل الأول فيها إلى الصمود الفلسطيني الأسطوري فوق أرضه، وقد تكفلت هستيريا حكومة نتنياهو، وبن غفير، وسيموتريتش بتعميق وطأة الهزيمة، حيث تبنوا فكرة عقاب أي دولة تعترف بالدولة الفلسطينية، التي يرونها مكافأة للإرهاب. أي فكرة من هذا النوع تستدعي بالضرورة تقوية التيار الشعبي الضاغط لفرض عقوبات أكاديمية وتسليحية واقتصادية على إسرائيل، ثم جاء قرار وزير الدفاع الإسرائيلي بفك الارتباط في شمال الضفة الغربية، بما يسمح بالمزيد من التوسع الاستيطاني، ليزيد من أزمة إسرائيل أمام حلفائها الذين يتبنون حل الدولتين.

حسب تصريح أميركي رسمي، فإن ذلك القرار “خطير” و“متهور”، إذا ما جرى إعادة بناء مستوطنات فوق أراضٍ فلسطينية خاضعة للسلطة وفق اتفاقية أوسلو، فإن أي كلام عن حل الدولتين يصبح لغوًا، في الوقت نفسه، اقتحم بن غفير المسجد الأقصى بحماية الشرطة، كأنه دعوة مفتوحة لحرب دينية. ووسط هذا الفشل السياسي، توجّه الكونغرس الأميركي لاستضافة رئيس الوزراء الإسرائيلي، المتهم أمام الجنائية الدولية، لإلقاء خطاب أمامه، في تحدٍّ أفلت عياره، إذا ما حدثت تلك الدعوة، فإنها ستكون هزيمة إستراتيجية وأخلاقية لا يمكن التحكم في تبعاتها، وستلحق بالولايات المتحدة وصورتها أمام نفسها والعالم كله.

بالإضافة إلى التحولات السياسية والدبلوماسية، كان هناك تأثير كبير على الرأي العام العالمي، في الوقت الذي استمرت فيه الحرب على غزة، انتشرت الصور والفيديوهات التي توثق معاناة الفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام العالمية، مما أثار موجات من الغضب والتضامن في جميع أنحاء العالم.

في أوروبا وأميركا، نظمت احتجاجات ومظاهرات تضامنية مع الفلسطينيين، وارتفعت الأصوات المطالبة بفرض عقوبات على إسرائيل ووقف الدعم العسكري والاقتصادي لها، هذه التحولات في الرأي العام لم تكن مجرد رد فعل عابر، بل هي تعبير عن تغير عميق في وعي الشعوب بقضية فلسطين وبالظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، في النهاية، يبدو أن إسرائيل تواجه تحديات غير مسبوقة على الساحة الدولية، ليس فقط من خلال الملاحقات القضائية والمواقف السياسية، بل أيضًا من خلال التحولات الكبيرة في الرأي العام العالمي، هذه التحولات تشكل ضغطًا كبيرًا على إسرائيل، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث قد تجد إسرائيل نفسها مجبرة على إعادة التفكير في سياساتها ومواقفها تجاه الفلسطينيين والمجتمع الدولي ككل.

 

  •  "العرب اللندنية"

 

 

تم نسخ الرابط