في معادلته الوجودية هناك معامل "الجمود" يعبّر عن قيمة ثابتة في شخصية العربي.. جعلته مع الزمن يحمل صفات "النمطي المتصلب" الذي يتكرر ويعيد إنتاج الذات، واضعاً قوالب دينية تاريخية لكل حروبه وقضاياه المعاصرة وانفعالاته. وفيما العالم يتحرك نحو الفضاءات الواسعة، يبقى العربي واقفاً على ظله مثل شجرة الغضا في أمدها الصحراوي. وكل الإنتاج الحضاري العالمي المتراكم حوله لم يغير في جوهره شيء، عدا أنه منح "النسخة المعاصرة منه" وسائط وفضاءات واسعة، يحمّلها في المناسبات الدينية والدنيوية أدعية ومواعظ رقمية عابرة للأرواح والأقطار.
ومن الطبيعي جداً أن حال أي "عيد" يأتي عليه هو الآخر مكرر على إيقاع الأمنيات الحرفية القديمة، الرسمية والشعبية، التي تحولت إلى مخطوطة مسمارية، يُراق على جوانبها دم الزمن دون أن تُفتح شفراتها ويتحقق ما بها، فيعود عام بعد عام بعد عام... بما مضى.
لقد سجلت الأحداث بأن انكسارات "العربي" ومصائبه مهما بلغ حجمها وعمقها لن تغير فلسفة حياته وأنماط تفكيره، ولن تدفعه ليستلهم العبر أو يتعلم من الصدمات المتواترة…
حتى حين يقف أمام لوحة عليها سهم أنيق يحدد الاتجاه إلى مدينة مكتوب اسمها بالعبري الفصيح: "بيت همقداش".. ويرى أشجار الزيتون وقد تاهت عن هوية الزراع، وضاعت سُبُل عودتهم…
أو يصادف عيده ذكرى مذبحة سبايكر العراقية داخل قصور الموت بعد أن طواها العالم ووضعها في عنابر النسيان الشرق أوسطية، ولم يذكِّر بها أحد سوى أصوات النائحات الدامعات وهن يجدّدن في كل عام عهد الحزن الرهيب…
أو يحاول الاقتراب من الفرات ولم يجد فيه ماء فيصيح بأعلى صوته: يا قوم إن الفرات "ناشفٌ" بعد أن نفّذ مهندسو المياه في بلاد "السلطان العثماني" مشروع الغاب وبنوا سدود منيعة حول منابعه لكي يتحقق المؤمنون الصابرون من الإعجاز العلمي في الحديث النبوي بأن الساعة لا تقوم حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب فيقتتل الناس عليه…
وحتى ان لمعت سكاكين داعش على "دوّار النعيم" في مدينة الرقّة، وهي القريبة من قلب الرشيد، ملك الدنيا، وصاح ضاربو الطبول: "رباع الخلد ويحك ما دهاها"...
أو اعتمر يمانيون العمائم السوداء واقتنعوا أن غياب المهدي ما هو إلا تكتيك رباني في سياق استراتيجيا السماوات الشيعية بنسختها الخامنئية، وقدموا بلادهم قربان له.
وهكذا.. ما منكم يا سكان الشرق العظيم في تعاملكم السنوي مع نوائب الدهر إلّا وارد تلك الأمنيات العيدية المتوارثة، تسومكم سوء الخيبات، مثلكم كمثل الذين يحلبون ناقة الأوصاب ويستقطرون بلسماً من السموم، كما قال "زارا..." في قديم الزمن.
لا أبا لك أيها الزمن الراكد على وجه الغبراء، إذ لا شيء يتجدد فيك سوى ما يُفتى به على منابر ووسائط "الأزارقة" الجدد، بمستوياتهم المختلفة، ليضعوا شكل "الجهادية الحديثة" لبناء الخلافة أو الولاية، باعتبار ان ذلك هو المتسع المتاح للتدين المعطِّل للعقل.. فيجد المؤمن المسلوب الإرادة نفسه، إما في صف "قطري بن الفجاءة" وهو يزبد ويرعد من على فرسه الصهباء معلناً أن "سبيل الموت غاية كل حيّ"، من أجل إنفاذ المشروع الشوروي بسيوف الخوارج المؤسسين…أو أن يقف في صف صديقه "المهلَّب بن أبي صفرة" وهو رجل "اوتوماتيكي الولاء" يحمل في رقبته بيعة لكل من أخذ كرسي الحكم بالسيف غلابا، وإن كان "إمام غشوم" فإنه "خير من فتنة تدوم"… حتى كبرَ وهام بعشق مكحولة العينين "ميمونة"، التي أصبحت بَصْمته الرادارية بعد أن استنفد كل طاقاته في "الكفاح المسلح" بالنصال وبيض الهند.
وإن قاومت أيها العربي المتزن سلسال "التدين المغشوش" العنيف أو الخفيف في ظاهره فأنت إما ليبرالي علماني أو ربما شيوعي حسب مقياس ريختر للإفتاء.. وويحك حينئذ، لأن تلك الصفات في نظر المرشد أو السيّد وأتباعهما من العامة الغلاظ " مغسولي الأدمغة " تعني الكفر "وبئس المهاد".
ذلك يا معشر العائدين السالمين إلى مضارب العيد ما يتجدد فيكم كل عام منذ أن طغت "الثقافة الأصولية" على تفاصيل الحياة لتصبح عصب الحراك الفكري وحالة معيارية تقاس عليها أمور الدنيا والدول والعلم، وأصبحتم معها أمةً من الدم المسفوك والعقل المهدور، وأصبحت أعيادكم تعود عام بعد عام بعد عام … بما مضى، لا بأمر فيها تجديد.
احمد عبد اللاه