خلال الأسابيع القليلة الماضية تردد بقوة في أروقة الكونغرس الأمريكي مصطلح "no labels"، ويعني الرغبة في وصول مرشح للرئاسة الأمريكية دون رعاية حزب من الحزبين الكبار.. أي أن هذا المرشح سيكون "مرشح حزب بلا تسمية".
ومع رغبة أعضاء هذا الحزب (الهلامي) في وصول أي مرشح يختارونه إلى البيت الأبيض فإنهم يعترفون بأن هذا وإن لم يحدث -أي الوصول- فإنه سيصب -أي هذا الترشح من قبل المرشح الثالث- في مصلحة وصول الرئيس السابق ترامب مجدداً للحكم.
يبدو الكلام معقداً في مطلع مقالي هذا، لكن الحقيقة أن الصورة المعقدة التي تطلقها هذه المنظمة بحاجة إلى إيضاح حيث تنطلق فكرة هذه المنظمة -التي ترى ضرورة (المرشح الثالث)- من أنها تضم ديمقراطيين وجمهوريين بارزين وتنطلق من أن المرشح الذي تريده يمكنه تحرير الولايات المتحدة من الغضب والانقسام اللذين يدمران، حسب رأيها، سياسة البلاد وأن هدفها تقديم خيار ثالث لمن لا يريد المتطرفين السياسيين داخل البيت الأبيض، ولمن هو غير مقتنع بما يقدمه كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي من خيارات.
هنا في واشنطن جرت بعض الاستطلاعات التي أظهرت رغبة الكثيرين في عدم رؤية بايدن أو ترامب رئيساً وبالتالي فلا بد من (المرشح الثالث)، وقبل ذلك هناك انقسام واضح داخل المجتمع الأمريكي الذي بات يرفض أشخاصاً تقدموا في السن وفشلوا في تقديم حلول لأزمات عاصفة مرت بها البلاد منذ جائحة كورونا وما بعدها.. وبالتالي بات البحث عن وجوه شابة وكوادر متميزة قد يفرزها حزب بلا تسمية أو منظمة مستقلة.. وهنا يرد السؤال: لماذا يكثر الحديث عن الرغبة في وصول (المرشح الثالث)؟
بداية.. هناك حالة استقطاب حادة بين الحزبين الأمريكيين وبين المحافظين والليبراليين أدت إلى الانقسام الذي ذكرته رداً على سياسات يعتبرها بعض الأمريكيين خاطئة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
وقد أدى هذا الانقسام إلى إعلان قيام منظمة (No labels) وتشكيل لجنة من ساسة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري باسم (مواطنون لحماية جمهوريتنا) دعت فيها حزبها الجديد إلى عدم تسمية مرشح ثالث، لأن ذلك سيصب في مصلحة ترامب، وبالتالي فإن (المرشح الثالث) أيضاً هو مشكلة داخل هذا الحزب الجديد.
وفي استطلاعات شركة (هاريس) لاستطلاعات الرأي تبين أن 58% من الأمريكيين يرغبون في وجود شخصية ثالثة معتدلة من خارج الحزبين الرئيسيين.
وإذا ما نظرنا تاريخياً إلى "المرشح الثالث"، أو ما يسمى (المستقل) فهو في الغالب الأعم يكون من الأثرياء المعروفين للناس، وهو ما نراه بوضوح اليوم في رجل الأعمال أندرو يانغ صاحب حزب "إلى الأمام" الذي أعلن انفتاح حزبه على كل من الديمقراطيين والجمهوريين، مؤكداً أن هدفه في الأساس أن يكون وسيلة ضغط لإصلاح سباق الانتخابات التمهيدية .
في رأيي الخاص، فإن نظرية الحزب الثالث تشبه إلى حد كبير نظرية حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المسمى "الجمهورية إلى الأمام" (قبل تغيير اسمه إلى النهضة) لكنها لا يمكن أن تشكل ذلك التحدي في الانتخابات العام المقبل، وإن كان لها تأثير مستقبلي في المنافسات داخل انتخابات الولايات المحلية إن استطاعت بناء تحالفات لا تعتمد على الهويات الحزبية.
لكن يبقى الاعتراف بأن الأمريكيين باتوا بسبب عوامل كثيرة مستعدين لتقبل حزب ثالث يطرح مرشحين غير بايدن وترامب بسبب مستوى الاستقطاب في السياسة الأمريكية، ولكن أيضاً وفي قراءة تاريخية فإن نظرية الحزب الثالث تمثل على الدوام النجاح المحدود الذي لا يطول وقته، ناهيك عن أن الأيديولوجيا لا تشكل اهتماماً في نظرية الحزب الثالث، وهو ما يتنافى مع الطبيعة الأمريكية التي ترسخ الانتماء إلى أيديولوجيات أحد الحزبين الديمقراطي والجمهوري وهو ما يسميه الكاتب ريتشارد شيندر، القبلية السياسية التي تتحكم في الميول الانتخابية.
في الخلاصة، إن تأثير ما يسمى (الحزب الثالث) لا يمكن الحكم عليه من خلال وصول مرشحه للفوز فهذا يصعب على الدوام حدوثه لكنه مع الحالة الآنية (أقصد ترامب وبايدن) قد يجبر كثيراً من مؤيدي الحزبين لتعديل نهجهم خوفاً من تخلي ناخبيهم عنهم وتعديل مسار هذين الحزبين في مراحل مقبلة.
أتذكر هنا المثل العربي الذي يتكلم عن الإنسان الذي يطارده النجاح أينما ذهب ولا شك أن "الحالة الترامبية" ستكون المستفيد من طرح هذا المرشح الثالث، فحتى لو استطاع هذا المرشح الثالث حصد ملايين الناخبين فإن هيمنة الحزبين الجمهوري والديمقراطي منذ عقود ليس من السهل تحجيمها، وأي تحجيم في الانتخابات المقبلة سيكون في صالح ترامب، حيث ستذهب أصوات ولايات مثل بنسلفانيا وميشيغن وويسكونسن إليه، وحتى إن كان هناك قلق من الجمهوريين حول تأثير المرشح الثالث فلا يمكن أن يكون بمقدار تأثيره على قلق الديمقراطيين.
بالقرب هنا من الكابيتول وخلال نقاش حول هذه القضية، أرشدني أحد الأصدقاء الأمريكيين الذين استضفتهم في برنامجي إلى كتاب بعنوان "موت وولادة الأحزاب الثالثة الأمريكية" لبرنارد تاماس، حيث يرى المؤلف أن اللحظة الراهنة مناسبة للمرشح الثالث بسبب الاستقطاب الحاد في السياسة الأمريكية في الفترة الحالية، لكنه يرى أيضا أن "الطيف الأيديولوجي" سيحسم هذا الصراع في الانتخابات المقبلة، وهو ما يجعل المرشح الثالث بعيداً عن البيت الأبيض مهما كان توهج ذلك المرشح الآتي من خارج الحزبين.