تأتي الذكرى 61 لثورة 14 أكتوبر وكأن الزمن عاد إلى نقطة البداية حين ثار الجنوبيون ضد بريطانيا ثورات متتالية تتوجت بـ 14 أكتوبر وكان البريطانيون أوضح رؤية لانتماء الجنوب من بعض أبنائه، فقد قال "تريفاسيكس" في مذكراته "ظلال الكهرمان" وهو أشهر مندوب بريطاني واجه ثورات الجنوب وانتفاضاته منذ أربعينيات القرن الماضي:
(كلهم - يقصد ثوار الجنوب - كانوا يأخذون الدعم من "إمام صنعاء" لكن ولا واحد منهم كان يريد أن يحكمه إمام صنعاء).
والحقيقة أن الجنوبيين في لجوئهم إلى اليمن لم يكن عن واحدية المشروع السياسي إنما عن فريضة كانت ملزمة بـ "دعم أهل القبيلة" لمواجهة العدو الصائل أو لرفع ظلم حاكم جائر، وفي سياقها استقبل ودعم الجنوبيين أهل اليمن من ظلم الأئمة، واستقبل ودعم اليمنيون الجنوبيين لمواجهة المحتل.
مهما كان الضخ الإعلامي حول اليمن الموحد فإنه يتداعى أمام وقائع تاريخية يؤكدها عدم القدرة على خلق اندماج وطني لهذا المسمى، فلا يوجد كيان اسمه "الدولة اليمنية" قبل عام 1990م ممتد على هذه المساحة الجغرافية الحالية ولو بدأنا بالبعثة النبوية فالرسول صلى الله عليه وسلم كاتب "انقسامية سياسية وقبلية" في هذه الجهة المسماة اليمن ولم يكاتب حاكما واحدا لدولة واحدة كمكاتبته للمقوقس حاكم مصر أو لكسرى فارس أو لقيصر الروم على أن لا يخلط بعضهم ذلك بالتقسيم الإداري للدول الإسلامية التي سمّت أجزاء من هذه الجغرافيا بـ "ولاية اليمن" فهو تقسيم إداري لدولة الخلافة والدولة الإسلامية كتقسيم المحافظات في أي دولة حديثة وليس حجة لوحدوية اليمن.
موجود وهم سياسي اسمه "اليمن السياسي الواحد" كوهم أصل العرب، فاليمن تاريخيا لم يكن موحدا وتجربة وحدته عام 1994م فشلت بشهادة الجميع وعلامات الانفصال في القلوب قبل الأرض، ولذا فحلول أزماته لن تكون إلا بعودة أوضاعه لما قبل عام 1990 فهو أقل أضرار يمكن معالجتها، فالحل الموحد ثبت فشله بغض النظر عن أوهام الاستقرار والتنمية والازدهار التي يتوهمها البعض ولا يمتلكون آلية للمنظومة الموحدة التي ستحققها التي تتنقّل بين عصبوية صنعاء وطائفيتها، فالحقيقة أن وحدة اليمن كذبة توهّمها وسوّقها "القوميون العرب" وتلقّفتها العصبوية اليمنية فأداروا الجنوب بالاستعمار، ويريدها الحوثي وحدة قناديل وزنابيل.
من الأهمية دراسة الوقائع السياسية والجغرافية كما هي تاريخيا ووضع حلول عملية ليست ممزوجة بالأساطير أو بأطماع الأيديولوجيات، فحتى المدارس الصوفية التي شكّلت الوعي الديني في القرون المتأخرة لم تكن واحدة في هذه الجغرافيا، فالمدرسة الصوفية الجنوبية تختلف عن المدرسة الصوفية في اليمن "الشمال"، عدا انتشار التشيع شمالا تشيع لم يجد له أرضا في شافعية الجنوب.
الحوثي فرض أمرا انفصاليا في الشمال والعليمي صار يخجل من تسويق "وحدة" ماتت لم يستطع بها أن يقنع محافظ "مأرب الوحدوي" أن يوّرد إيرادات "مأرب الوحدوية" في البنك المركزي الوحدوي في عدن، بينما ثلّة من مثقفي اليمن ومن الظواهر الصوتية الجنوبية ومازالوا يعيشون الوهم الوحدوي وأن ما يسمونه الانفصال أخطر من مشروع الصفيونية الفارسية في صنعاء التي صارت إيرانية الهوى والهوية.
إن عيدروس الزبيدي يعلم حقيقة واضحة، وهو عضو رئاسي ويعلمها أيضا كل أعضاء الرئاسي أن الوحدة على الأرض انتهت شمالا وجنوبا ولم يعد لها سوق رائج لا في الجنوب ولا عند العليمي إلا من خط يجمع الجميع ضد الحوثي أو في عقليات مهرجين في منصة (X) أو بعض مهرجي القنوات اليمنية، ولذا فاحتفاء الجنوبيين بأكتوبر هو انعتاق جنوبي من اليمننة وعودة وعيهم بهويتهم وبمشروعهم الجنوبي وتظل رابطة الإخاء العربي والإسلامي تجمعنا بأشقائنا في اليمن كما تجمعنا بالشعوب العربية والإسلامية.