أمرٌ مؤسف أن تقع قناة تليفيزيونية يعتقد الكثيرون من متابعيها بأنها رمزٌ للمهنية والحيادية، تقع في فخ المكايدات السياسية والمناكفات الحزبية والأيديولوجية، بسبب بعض موظفيها أو متعهديها.
انتشر مؤخراً على نطاق واسع عبر منصات ومواقع ووسائل التواصل الاجتماعي ما يمكن اعتباره تقريراً استقصائياً عن عمليات الاغتيال التي شهدتها العاصمة عدن جنوبي اليمن، وقد لاحظ كل الذين شاهدوا الفيلم (ومدته أكثر من 42 دقيقة) أنه كان مسلطاً نحو محاولة إدانة دولة الإمارات العربية المتحدة بالوقوف ومعها المجلس الانتقالي الجنوبي وقوات مكافحة الإرهاب الجنوبية وراء الاغتيالات التي شهدتها العاصمة الجنوبية عدن طول الأعوام ما بعد 2015م.
وأبرزت القناة ما قيل إنها محاولة اغتيال الزميل النائب البرلماني (الإصلاحي) إنصاف مايو كحالة مميزة ومكررة مصحوبة بموجة من الصخب والتهويل والتضخيم طوال مدة الفيلم، ولي حول هذه المحاولة حديث لاحق في إطار هذا المنشور، لكن الشاهد هنا أن كل زمن الفيلم تركز على قضيتين أساسيتين هما:
1. اتهام دولة الإمارات العربية المتحدة على إنها ومن خلال جماعات الاغتيالات الدولية هي من يقف وراء العمليات الإرهابية، وقد صاحب ذلك عبارات مثل: إن المجلس الانتقالي الجنوبي أعلنته الإمارات، مع التركيز على اتهام جهاز مكافحة الإرهاب الجنوبي، بأنه يقف ورا تنفيذ عمليات الاغتيالات التي تعرض لها البرنامج.
2. تقديم حزب التجمع اليمني للإصلاح على إنه ضحية وأن كل كوادره مستهدفة من قبل دولة الإمارات وأتباعها، كما يقولون.
في هذا السياق يمكنني التوقف عند عددٍ من الأمور أهمها:
1. دور دولة الإمارات العربية المتحدة وهنا لن أتوقف مطولاً عند الدفاع عن الأشقاء في دولة الإمارات، فلدى الإمارات إعلاميوها وقنواتها الدبلوماسية والقانونية التي ستفند جميع التلفيقات التي حرصت معدة الفيلم (البرنامج) على تجميعها وتضخيمها والتركيز عليها دون سواها، لكنني أشير إلى أن وجود القوات الإماراتية في اليمن هو مثل وجود كل قوات التحالف العربي السعودية والمصرية والسودانية وقد لعبت هذه القوات دوراً حاسماً في ردع الجماعة الحوثية وإلحاق الهزيمة الساحقة بها في عدن، وأن القوت الإماراتية قدمت قرابة الخمسين شهيد في محافظة مأرب في عملية استهداف إرهابية واحدة ما تزال خفاياها لم تكشف حتى اللحظة، وأعتقد أن الهدف من كل هذه الزوبعة هو الانتقام من الدور الإماراتي في دعم المقاومة الجنوبية والتهامية في تحرير الجنوب وصولاً إلى بوابات مدينة الحديدة.
خصوصا وقد لاحظنا أن معدة البرنامج (الفيلم) لم تتعرض للجماعة الحوثية إلا من خلال حديثها في بداية الفيلم عن احتلال الحوثيين للعاصمة صنعاء وشن هجماتهم على الناقلات التجارية في البحر الأحمر، وهما الحدثان الذان مرت عليهما المذيعة مرور الكرام، وكأن احتلال العاصمة وإسقاط الدولة والاستحواذ على كل مواردها وقلب نظام الحكم فيها وتحويل مؤسستها العسكرية إلى مليشيات تابعة لتلك العصابة، قدمته المذيعة وكأنه مجرد حادث مروري راح ضحيته سيارة بدون حتى ركاب.
2. وبالإضافة إلى ذلك أعتقد أن الفيلم أرد أن يستغل الخلاف الإماراتي مع جماعات الإخوان المسلمين للانتقام من الإمارات لصالح جماعة الإخوان في اليمن.
ومن القرائن التي تؤكد ما تعرضت له هو أنه وخلال الفترة التي يتحدث عنها الفيلم شهدت عدن عشرات حالات ومحاولات الاغتيال شملت قادة بحجم اللواء علي ناصر هادي ،قائد المنطقة العسكرية الرابعة في العام 2015م، اللواء جعفر محمد سعد محافظ محافظة عدن أثناء وبعد الحرب في العام 2016م، فضلا عن عمليات تفجير معسكرات في الصولبان، معسكر النصر، شرطة الشيخ عثمان، أما المحاولات التي فشلت فقد استهدفت المئات من القادة والشخصيات السياسية والعسكرية والأمنية والسياسية ومنهم ممن تحسبهم مذيعة الـ BBC من أتباع الإمارات أمثال محافظ محافظة عدن أحمد حامد لملس، مدير أمن عدن اللواء شلال علي شائع، وزير الزراعة والثروة السمكية اللواء سالم عبد الله السقطري، محافظ محافظة لحج حينها رئيس فريق التفاوض الدكتور ناصر الخبجي وغيرهم المئات، لكن المذيعة لم تتعرض لأي منهم، لا أدري لماذا: ألأنهم ليسوا من التجمع اليمني للإصلاح وطبعا ليسوا من أتباع الحوثيين أم لأنهم أقرب إلى دولة الإمارات ، وبالمناسبة فإن من اغتال المقاوم المعروف أحمد الإدريسي ليست اي جهة مجهولة بل إنها جماعة القاعدة التي اختلفت مع الادريسي أثناء سيطرتها على بعض مناطق عدن حول تسليم ميناء المنطقة الحرة السلطات الرسمية، وحينما أصر هو على تسليم الميناء كان اغتياله عقاباً له على عدم انصياعه للقاعدة وبناتها.
3. وأعود مجدداً لأسأل: لماذا لم تتناول المذيعة أسماء من ضحايا الاغتيالات أمثال اللواء أحمد سيف المحرمي نائب رئيس هيئة الأركان العامة في جيش الشرعية، اللواء عمر الصبيحي القائد في جيش الشرعية، اللواء ثابت مثنى جواس قائد القوات الخاصة، العميد منير اليافعي أبو اليمامة قائد قوات الأحزمة الأمنية، النقيب حسين قماطة قائد شرطة مديرية رُصُد، وغيرهم عشرات الأسماء، بينما حاز زميلي وصديقي النائب إنصاف مايو على ثلاثة ارباع زمن الفيلم، تضمنت بعضاً من الإشارت إلى بعض أئمة وخطباء المساجد الإصلاحيين.
4. وبمناسبة الحديث عن الزميل إنصاف مايو، فإنني أولاً اقول له حمداً لله على السلامة، فوالله لم أعلم عن الحادثة إلا من خلال الفيلم، مع إننا منذ نحو عام كنا نتحدث عن نفس المشكلة على خلفية انعقاد مجلس النواب في عدن، ولم تقل لي عنها.
وعتبي الثاني على الزميل إنصاف هو : لماذا لم تطرح الموضوع على مجلس النواب ليتخذ موقفاً محدداً تجاه هذه القضية؟
وعتبي الثالث هو كيف تجازف بروحك وبحياتك أيها الزميل وتسافر إلى العاصمة البريطانية لندن لمقابلة رجل مجهول كان يمكن أن ينفذ فيك ما فشل في تنفيذه في عدن؟
ولا أخفيك لقد تركز شعري وانا اتابع أحداث الفيلم أثناء وجودك في لندن لمقابلة القاتل، وتوقعت ظهوره في اي لحظة، مسدداً فوهة مسدسه إليك لتصفيتك، وبصراحة إنني أحسدك على هذه الشجاعة المتناهية والنادرة.
5. أشير هنا إلى أن كل الاغتيالات التي تحدثت عنها المذيعة ولم تشر فيها إلا إلى المنتميين إلى التجمع اليمني للإصلاح جرت قبل تشكيل المجلس الانتقالي بسنوات، بعضها جرت أثناء تولي مهمة الأمن في عدن من قبل الوزيرين المحترمين اللواء أحمد محمد بن عرب، واالمهندس اللواء أحمد بن أحمد الميسري، فما علاقة المجلس الانتقالي بكل هذا والادعاء بأنه هو المسؤول عن كل الأوضاع الأمنية في عدن، وهو الذي لم يكن قد أعلن عن وجوده حينها.
6. وعتبي مجدداً على قناة BBC لتحولها من منبر إعلامي شهير بجمهور ومتابعين يبلغ عددهم الملايين إلى وسيلة لاستخدام بعض الحزبيين والايديولوجيين، لتحقيق أهداف احزابهم، عبر هذه المنبر الذي يفترض أنه محايد ومستقل ومهني، فأتمنى على BBC أن تفتح تحقيقاً في ما وراء هذه الموجة الإعلامية التي حشرت هذه المحطة المحترمة في زاوية التسخير والسخرية السياسية.
7. وأكبر أسف يشعر به المرء هو أن تقع أسماء مثل براء شيبان وهدى الصراري ضحية هذا الفخ المتحيز والمتحامل بوضوح، مع كل التضامن مع المحامية هدي الصراري لفقدانها ابنها الذي لم تتضح بعد خلفيات وملابسات اغتياله.
وأخيرا
أتعجب من محطة مثلBBC أن تقتصر في لقاءاتها عن أحداث وتطورات تجري في جنوب اليمن (الذي لديه قضية وطنية تتعلق بالتحرر واستعادة دولته) وتقتصر في اللقاءات على شخصيات كلها ذات أصول شمالية حتى وإن كانت تقيم في عدن، وكأن الجنوب الذي هو ضحية الحرب وضحية الغزو مرتين والاحتلال على مدى ثلاثة عقود وضحية العمليات الإرهابية والاغتيالات والتصفيات الجسدية والفوضى الأمنية، أقول كأن هذا الجنوب خالي من البشر الذين يمكن أن يساهموا في كشف الحقيقة وإبراز المزيد من التفاصيل غير تلك التي تناولها التقرير بتحيزه المكشوف لكل ذي عينين، أما اللقاءان اليتيمان مع اللواء عيدروس الزبيدي والنائب إنصاف فلم يكونا إلا تعبيراً عن استجواب لطرف حرصت فيه المذيعة أن تقدم رئيس المجلس الانتقالي ونائب رئيس الجمهورية كمندوب عن الطرف المتهم وتقدم النائب البرلماني كمجني عليه في حادثة لم يسمع عنها أبناء الجنوب إلا من هذا البرنامج (الفيلم) وهي سوابق لم اكن أتمنى أن تقع فيها محطة مثل محطة BBC.
باعتماد قناة BBC على هذا النوع من التغطيات المجتزأة والمتحيزة والمتحاملة والمهدفة تهديفاً سياسياً وأيديولوجياً وحزبياً ستخسر القناة الكثير من جماهيرها الذين بدأوا في التشكك في مهنيتها واستقلاليتها وحياديتها وموضوعيتها.